«القدس» المكان المشتهى والمستعاد في السيرة الذاتية الفلسطينيّة ... بقلم: سمير حاجّ إزالة الصورة من الطباعة

«القدس» المكان المشتهى والمستعاد في السيرة الذاتية الفلسطينيّة ... بقلم: سمير حاجّ


«القدس» المكان المشتهى والمستعاد في السيرة الذاتية الفلسطينيّة

اسم الكاتب: بقلم: سمير حاجّ

تتكئ سرديات المنفى الفلسطينيّ المكتوبة بالإنكليزية بشكل خاص، على أرشفة الذاكرة الجمعية وتأكيد الحق الفلسطينيّ وهوية الناس والمكان، خوف الضياع والنسيان والاندثار، بسبب الاقتلاع والنفي ومرور الزمن. هذا «الجانر» يندرج تحت عنوان «المذكّرات الشّاهدة» أو «مذكّرات الشّهادة».

تحضر القدس في هذه الأعمال التخييلية، من خلال جميع الحواسّ، مكانا جميلا ومشتهى . تنثال صورها بروافد متنوّعة، مسكونة بالماضي الجميل المستعاد في تلافيف الذاكرة.

في مذكّرات المفكّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد (1935-2003) التي تحمل عنوان «خارج المكان» (2000- دار الآداب)، الصادرة بالإنكليزية تحت عنوان Out of Place (1998)

تحضر القدس من خلال صورة الطفل سعيد، الذي غادرها وهي ذات هويّة فلسطينيّة، وكما يسمّيها قدس فلسطين، في كانون الأوّل/ديسمبر 1947 وهو في الثانية عشرة من عمره. يقول إدوارد سعيد عن أبيه وديع «كان يكره القدس. وعلى الرغم من أنّني ولدت فيها وأمضينا فيها فترات طويلة من الوقت، فقد كان كلّ ما يقوله عنها إنّها تذكّره بالموت».

والسبب في ذلك أنّ جدّه حثّ أباه على مغادرة فلسطين، للهرب من التجنيد الإجباريّ في الجيش العثمانيّ، بعد اندلاع حرب في بلغاريا عام 1911. بينما من منظور الطفل سعيد، القدس هي الطالبية والقطمون والبقعة الفوقى والتحتا المأهولة بالفلسطينيين، أي أنّها المكان ذو الهويّة الفلسطينية، هذا ما يقوله «ومنذ أيامي الأولى في القدس إلى آخرها فيها، أذكر بوضوح أنّ الطالبية والقطمون والبقعة الفوقى والتحتا كانت مأهولة بالفلسطينيين دون سواهم، وينتمي معظمهم إلى عائلات نعرفها ولا يزال لأسمائها وقع أليف في أذني- سلامة، دجّانيّ ،عوّاد، خضر، بدّور، دافيد، جمال، برامكي، شمّاس، طنّوس، قبين ـ وقد أمسوا جميعهم لاجئين.».

حين انتهى إدوارد سعيد من تأليف مذكّراته، قام بزيارة إلى القدس في تشرين الثاني/نوفمبر 1998، وفي نقطة التفتيش حين سأله الإسرائيليون عن الموعد المحدّد الذي غادر فيه إسرائيل بعد الولادة، يقول «فكنت أجيب أنّني غادرت فلسطين في كانون الأوّل /ديسمبر 1947، مشدّدا على كلمة «فلسطين». «هل لديك انسباء هنا ؟» كان السؤال الثاني الذي أجبت عليه بـ»لا أحد» وقد امتلكني شعور من الحزن والخسران لم أكن أتصوّر أنّي سأختبره».

وكان إدوارد سعيد قد زار منزل عائلته الواقع في القدس الغربية، لأوّل مرة منذ مغادرته الوطن عام 1992، وقد تغيّرت هويّة ساكنيه «على أننّي في عام 1992 تمكنت، للمرة الأولى منذ مغادرتنا عام 1947، من زيارة المنزل الذي تملكه عائلتي في القدس الغربية والمنزل الذي نشأت فيه أمّي في الناصرة ومنزل خالي في صفد وغيرها من المنازل. وإذا هي في زيارتي الثانية يسكنها جميعها ساكنون جدد تذرّعوا بأسباب عاطفية كابحة جدا ومبهمة جدا لعرقلة دخولي إليها مرة ثانية، بل لمنعي عمليا من الدخول، ولو من أجل إلقاء نظرة خاطفة».

إنّ القدس عند إدوارد سعيد تعالج من رؤية كونية تهتم بالإنسان والمكان معا، وهي تشديد الوجود والحضور الفلسطينيّ في الذاكرة الجماعية، وهي رمز لسرقة المكان وهويّته الفلسطينيّة.

وفي رواية «البحث عن فاطمة» 2000 لغادة الكرميّ (456صفحة)، تحضر القدس ناسا ومكانا منذ عام 1940 وحتى اتفاقية أوسلو عام 1993 وما بعد ذلك، على لسان إنسانة فلسطينية شتّتت ونفيت عن وطنها وهي في التاسعة، تعيش شرخا في الهويّة، لأنّ فلسطينيتها غير متكاملة بسبب نفيها عن القدس، ولغربتها وعدم انصهارها في المجتمع البريطانيّ. فالقدس في مخيّلتها ووجدانها هي الحياة السعيدة في القطمون- الذي سكنته البرجوازية الفلسطينية – قبل النكبة، وهي النسيج الاجتماعيّ الرائع الذي كان يجمع بين أسرة والدها والجيران المسيحيين واليهود. والقدس هي العلاقة بالكلب «ركس» الذي اضطروا تركه وهم يرحلون عن فلسطين، ذاك الرحيل الذي لم يتصوّر أحد أن يكون نهائيا.

إنّ فاطمة الحقيقية المقدسية في هذه السيرة، أيقونة حبّ وموضع قداسة، يتعدّى كونها الخادمة التي كانت تساعد أمّ المؤلفة في رعاية شؤون المنزل وصنع الكعك، والاهتمام بأبناء الأسرة سهام وزياد وغادة إلى الهوية الضائعة والمختفية. وهي الذاكرة الخصبة الحيّة لأحاديث غادة

الطفولية، وهي البئر العميقة التي تمتح منها صورالقدس المشظّاة، وهي قطع الفسيفساء لمدينة القدس، ومن خلال استعادتها في المخيّلة تستعاد صور المكان. في عام 1991 وصلت غادة الكرمي إلى القدس، بحثا عن بيت العائلة في القطمون، الذي تركته عام 1948.

وفي سيرواية جبرا إبراهيم جبرا «صيّادون في شارع ضيّق» التي صدرت بالإنكليزية عام 1960 تحضر القدس إبّان نكبة 1948، إنسانا ميّتا مشظّى ومكانا مهدوما . فجميل فران المتماهي مع جبرا المؤلف، شاب فلسطينيّ خرّيج جامعة كامبردج في الأدب الإنكليزيّ، يعود إلى القدس ويبدأ تجربة حب مع ليلى شاهين.

في عام 1948 يفجّر بيت ليلى شاهين من قبل اليهود ،وتقتل ليلى . يهاجر جميل فران إلى العراق، بعد أن حصل على وظيفة تدريس في جامعة بغداد. تتجلّى القدس في هذه السردية من خلال استرجاعات جميل فران، المسكون بليلى شاهين وبالقدس، يحملهما أيقونتين في أسفاره. وكما يقول «لقد نسيت أسفاري، وما عدت أستطيع ان أذكر ملامح أي مدينة في العالم سوى مدينة واحدة. مدينة واحدة أذكرها طيلة الوقت. تركت جزءا من حياتي مدفونا تحت أنقاضها، تحت أشجارها المجرّحة وسقوفها المهدّمة. وقد أتيت إلى بغداد وعيناي ما زالتا تتشبثان بها ـ القدس».

و صور القدس عند جبرا مهدّمة ومجرّحة «أشجارها المجرّحة وسقوفها المهدّمة»، وصورة الإنسان ليلى شاهين متّشحة بالسواد حينا ويدها ملوية وميّتة. والمكان مهدّم ومنسوف ومهصور ومحطّم، دلالة إلى نفسية السّارد المصدّعة والحزينة.

وفي «القدس والبنت الشلبية» لعايدة النجار (2011) تحضر القدس وتستعاد من خلال – «البنت الشلبية» التي تطير على المراجيح القريبة من المسجد الأقصى بفستان العيد «الزهري» وتأكل «الكعك بسمسم» وتتذوّق «شعر البنات» كعكبانيّ اللون .- كما يحضر المكان بجغرافيته الجميلة بأشجار التين والزيتون وزهر الرمان والصبّار، والحارات والأزقة والأسواق ودور الحجر والمعالم العمرانية التاريخية والدينية والتراثية الإسلامية والمسيحية واليهودية، والقصور القديمة التي تحمل عناوين العائلات المقدسية، والصور والكتب وشهادات الميلاد وأسماء منقوشة على الحجارة تأكيدا على هوية المكان التاريخية. إنّ صورة القدس هنا فسيفساء جميلة، قبل أن يصبح الفلسطينيّ لاجئا، ينفى عن الدار والوطن ويعيش في أمكنة غريبة ومتنوّعة.

وفي «ذكريات من القدس» (2009) لسيرين الحسيني شهيد، تحضر القدس بعبقها وتاريخها السياسيّ والنضاليّ خلال أربعة أجيال، بدءا من ثلاثينيات القرن الماضي، إبان نضال والدها جمال الحسيني الانتداب البريطانيّ في ثورة 1936- 1939، والقدس في هذا العمل مركز إشعاع سياسيّ واجتماعيّ.

كاتب فلسطينيّ ـ الجليل