اسبانيا إزالة الصورة من الطباعة

الجالية الفلسطينية في أسبانيا

الجالية الفلسطينية في أسبانيا

تعتبر أسبانيا دولة الوجود الأقدم للفلسطينيين بين الدول الأوروبية، أما دافع الهجرة فهو للعمل والدراسة الجامعية. أما الفئة الأولى التي سعت إلى العمل، فهي تلك الموجودة في جزر الكناري، إذ يعود أصلها إلى الهجرة العربية إلى أمريكا التي حصلت مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أما الفئة الثانية والوافدة بهدف الدراسة فيرتكز وجودها في محيط الجامعات الرئيسية في المدن الأسبانية.

أولاً: الجالية الفلسطينية في جزر الكناري

تعود أصول الحركة السكانية إلى هجرة رعايا الدولة العثمانية لأمريكا التي كانت قد بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ورواد الجالية الفلسطينية في جزر الكناري انبثقت من حركة الهجرة تلك، فالموقع الجغرافي الاستراتيجي لجزر الكناري بين أوروبا وأفريقيا وأمريكا، يبقى نقطة مركزية لأنها أصبحت نقطة عبور للسفن التي تحتاج للتزود بالوقود اللازم لمشوارها الطويل، ولأسباب عديدة أدت إلى قرار استقرار هؤلاء في الكناري بدل استمرار رحلتهم إلى أمريكا، فكانت السفن تتوقف للتزود بالوقود أو لأي ظرف طارئ خارج عن إرادة ربان السفينة، وطول الرحلة إلى أمريكا دفع البعض إلى الاستقرار في الكناري. ويعود غالبية المهاجرين إلى ترمسعيا من محافظة رام الله وتبعهم أفراد من أماكن أخرى مثل عقربا من محافظة نابلس وقبل ذلك من بيت ساحور وبيت جالا من محافظة بيت لحم.

 

الخصائص الديموغرافية

كانت كل الهجرة العربية إلى أسبانيا مركزة في جزر الكناري، وتركزت الهجرة الفلسطينية في مقاطعة لاس بالماس.

لقد تسببت ظروف الحرب العالمية الثانية بمنع الهجرة إلى الجزر، بينما شجعت الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ـ 1939) على مغادرة المهاجرين العرب لهذه الجزر إلى أمريكا أو العودة إلى بلادهم الأصلية، ولأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، فالقمع الذي أعقب اشتعال الحرب الأهلية الإسبانية أثر على العرب كباقي السكان المتمثل بالعنف والابتزاز إلى أن قامت به قوات الأمن. ومع انتهاء الحرب استمرت الهجرة العربية والفلسطينية مدفوعة بدافع الطموح لتحسين أوضاعهم الاجتماعية، الاقتصادية، بينما أضاف بروز القضية الفلسطينية سبباً آخر بالنسبة للهجرة الفلسطينية، ومن الضروري إبراز أن الفلسطينيين الذين استقروا في الكناري في النصف الثاني من القرن الماضي، جاؤوا من المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وليس من مناطق 1948. وزاد معدل الهجرة الفلسطينية خلال السبعينيات ولكن وتيرة الهجرة هذه لم تلبث أن توقفت في بداية الثمانينات.

 

الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للجالية الفلسطينية

لا ينفصل الاندماج الاجتماعي الاقتصادي للفلسطينيين في المجتمع الكناري عن بقية المهاجرين العرب، وتركز النشاط في تجارة القماش والأغلب كباعة متجولين لأنه غير مكلف، ومع الوقت ومراكمة الأموال ينتقل من كونه بائعاً إلى صاحب متجر، يرافقه استقرار وتغير نمط العيش والتفاعل مع المجتمع المضيف، وعلى عاداتهم وتعلم اللغة الإسبانية باللهجة الكنارية والزواج، وبهذه الطريقة يكون الصعود الاجتماعي قد اكتمل ومعه الاندماج في نسيج المجتمع الكناري.

المجتمع واتجاهات الترابط والانتماء

تلعب الجالية دور أساسي في المرحلة الانتقالية، عن طريق التكيف والاندماج. يستوعب أعضاؤها القادمين الجدد من دون أن يكون لهم سابق معرفة بهم، فالجالية المهاجرة تقوم بوظيفة اتصال مزدوجة مع المجتمع الجديد، ودور الوسيط بين ثقافتين مختلفتين، بتقديم المهاجرين الجدد إلى مجتمع الجزر.

وأظهر العرب المسيحيون نمو نمواً داخلياً، فتزوج غالبية العرب المسيحيون من نساء عربيات، فيما تزوج غالبية العرب المسلمون من نساء كناريات مسيحيات، وبعد الزواج تتسع دائرة العلاقات "العربية والكنارية العربية"، وتتعمق التزاور وتبادل الدعوات والتعاون لحل المشكلات التي تبرز في الحياة اليومية. وكلما زاد الاندماج في المجتمع الكناري ازدادت النزعة الفردية والتغير الاجتماعي، وأكبر إنجاز للعرب كان تأسيس النادي الإسباني العربي منذ بداية الستينيات.

وبشكل عام يمكن القول أن العرب المهاجرين ومنهم الفلسطينيين فشلوا في نقل موروثهم الثقافي (اللغة العربية) إلى الأجيال الجديدة والمجتمع الكناري. وتعزى أسباب عدم قدرة المهاجرين إلى نقل هويتهم الثقافية إلى الأجيال اللاحقة، إلى نقص الروابط الثقافية.

الهجرة والمنفى والهوية

الهوية الوطنية الفلسطينية في جزر الكناري ضعيفة جداً عندما تقارن مع مجتمعات الجاليات الفلسطينية الأخرى في الشتات، لأنالهجرة إلى جزر الكناري لم تكن مرتبطة بالقضية الفلسطينية فلا يعتبروا لاجئين كغيرهم من الفلسطيني الذين طردوا من أرضهم عام 1948، وحتى الذين تركوا أرضهم بعد احتلال عام 1967، فقد أجبروا على ذلك نتيجة السياسة الاستراتيجية التي تسعى إلى التهويد والتخلص من الفلسطينيين. كما أن ثقافة المهاجرين السياسية التقليدية والشخصية مبنية على العشائرية الدينية المناطفية، ووجدوهم في مناطق نائية زادت من صعوبة الاتصالات بين أفراد الجالية والتجمعات الأخرى في الشتات، وحكم فرانكو فاقم المشكلة، وجعلهم يفتقرون إلى حرية الحركة والتعبير، لهذا كله فإن المشاعر الوطنية كانت عندهم ضعيفة. على الرغم من ذلك كان للجالية نشاط وعمل لدعم المقاومة الفلسطينية وجمع المال لها.

إن حال الجالية الفلسطينية بدأت بالتغيير من جيل إلى آخر، وترافق هذا التبدل مع المرحلة الانتقالية في إسبانيا وما رافقها من تقلبات في الحركة السياسية والاجتماعية، فقام بعض الأعضاء ممن ولدوا في الجزر بالمشاركة في النشاطات المجتمعية، فنظموا المعارض وعروض الرقص الشرقي وكتابة المقالات في وسائل الإعلام.

وعقدت الجالية مؤتمرها الأول في بداية الثمانينات ومثلت مؤسسة "سنعود" في ذلك الوقت نمواً نوعياً وكمياً للوجود الفلسطيني. وفي بداية التسعينيات اختفت مؤسسة سنعود من الوجود، بسبب التعاطي السياسي والتقييم الخاطئ لها ولدورها من قبل مكتب م. ت. ف. ومحاولة الإمساك ولعب دور المرجعية ولعب دوراً مركزياً كسلطة يجب استشارتها بشكل دائم.

ثانياً: الجالية الفلسطينية في إسبانيا الأم

اختار الآلاف من الطلبة الفلسطينيين شبه جزيرة إسبانيا لدراستهم الجامعية، على خلاف المهاجرين إلى جزر الكناري، فإن المهاجرين الجدد أكبر عدداً وأصغر سناً، فالجالية الفلسطينية في إسبانيا تتكون بشكل رئيس من الطلبة الشباب الذين بقوا في إسبانيا بعد استكمال دراستهم، مندمجين في المجتمع الإسباني كمهنيين ورجال أعمال في الغالب وكجزء من النسيج الاجتماعي من خلال الزواج، الأمر الذي نتج عنه جيل فلسطيني ـ إسباني.

كانت إسبانيا واحدة من الدول التي اختارها الطلبة الفلسطينيون للتحصيل العلمي في الستينيات والسبعينيات، والفئة الأساسية قدمت من الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن ثم الكويت وسوريا ولبنان، ووفق تقديرات فإن عدد الطلبة الفلسطينيين يتراوح بين 3500 ـ 5000 ألف طالب، إلا أن عدد الطلبة بدأ بالتناقص في الثمانينيات والتسعينيات بعد انضمام إسبانيا إلى الاتحاد الأوروبي، حيث زادت العقبات البيروقراطية أمام دخول الأجانب، وتنامي قدره المنطقة العربية على استيعاب الطلبة.

كانت الدراسات الأهم التي التحق بها الطلبة هي الطب، حيث أن لهذه المهنة قيمة اجتماعية. والاختيار الثاني الصيدلة، إضافة إلى المجالات العلمية التجريبية والتكنولوجية، والعلوم الإنسانية احتلت موقعاً هامشياً وبسبب هذا التوجه يمكن تفسير النقص النسبي في أعداد المفكرين والمثقفين في إسبانيا، مقارنة مع البلاد الإنجلوسكونية أو في فرنسا.

مع زيادة عدد الطلبة الفلسطينيين تشكلت نواة من الطلبة حول المدن التي يسكنوها، والجامعات التي يدرسون فيها. أدى ذلك إلى أن الصلات الاجتماعية ما بين الطلبة ازدادت، وأن البيئة الطلابية كانت على درجة عظيمة واستثنائية في الأوقات التي يتصاعد فيها الغليان السياسي. وقد لعبت الفصائل الفلسطينية الرئيسية الثلاث الديمقراطية وفتح والشعبية بالدور الرئيس في تنمية الوعي السياسي والاستقطاب السياسي، وتم إنشاء فرع للاتحاد العام لطلبة فلسطين في إسبانيا في نهاية الستينيات من القرن الماضي.

الحركة الطلابية

للاتحاد العام لطلبة فلسطين أهمية خاصة في شبكة المؤسسات الفلسطينية، ويعتبر الاتحاد مركز النشاط الاجتماعي، السياسي لطلبة الجامعات من الفلسطينيين والكثير من الطلبة كانوا يمدون فترة دراستهم لتفريغ أنفسهم بشكل أكبر لأنشطة الحركة الطلابية، ولم يكن الاتحاد منفصلاً أو مستقلاً عن الحركة الوطنية الفلسطينية. كان المئات من الطلبة الفلسطينيين في إسبانيا مناضلين في صفوف فصائل م. ت. ف. ولهذا السبب كانت الخلافات السياسية بين الفصائل تنعكس بالضرورة على فرع الاتحاد.

اعترفت إسبانيا رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1979، عند زيارة المرحوم عرفات واستقباله من قبل رئيس إسبانيا ادولفوسواريز. في هذا السياق تراجع دور الاتحاد في علاقاته مع القوى السياسية الإسبانية بعد افتتاح مكتب للمنظمة التي تعاونت مع الاتحاد، بتكليفه بتمثيل المنظمة في دعوات الجامعات والاجتماعات والاحتفالات الموسمية والمعارض ... الخ. وقد كانت القاعدة الاجتماعية الطلابية نقطة هامة لدعم نشاط م. ت. ف. الذي تزايد في إسبانيا في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وخلال تلك الفترة أصبحت الحركة الطلابية الفلسطينية في إسبانيا من أنشط الحركات الطلابية في أوروبا، ويمكن القول بأن الاتحاد كان مدرسة سياسية، واكتسب عدد واسع من الخبرة في العلاقات الدولية والعربية.

 

من طلبة إلى مجتمع مؤسس

ساهم الاتحاد في تخفيف مصاعب الاندماج في المجتمع، والانخراط في النشاط السياسي، وكان هذا الانخراط في النشاطات الاجتماعية والسياسية هدف في حد ذاته بمنحهم الشعور بالكرامة الوطنية، ويعيد تكوين الهوية الفلسطينية الجماعية على الطلبة الفلسطينيين في إسبانيا بعد خروج م. ت. ف. من بيروت والانشقاق في حركة فتح، ومرت الساحة الإسبانية بجدل وصراعات ذاتية.

وعلى الصعيد الاجتماعي لم تكن المتغيرات التي حصلت أقل خطورة، فصورة الطلبة الذين قدموا في الستينيات والسبعينيات قد تغيرت، فهم لم يعودوا من الطلبة أو من الشباب، فالتغيير الاجتماعي يحمل الأهمية الأكبر في تفسير ما حصل من تغيرات في مجتمع الجالية الفلسطينية في إسبانيا، التي بدأت تتجه إلى الاندماج بعد تخرج الطلبة من الجامعة والعمل والزواج وتكوين الأسرة ... الخ، والحصول على الجنسية دون عقبات تذكر. والزواج المختلط (العرب ـ الإسبان) ظاهرة شبه عادية بين الطلبة العرب 85%، وهذه النسبة تشهد على قوة الاندماج في المجتمع الإسباني، وإذا ما أخذنا في الاعتبار تقدمهم العلمي ونوعية المهن المتخصصة. يمكن التعرف على العوامل المساعدة في تفسير ارتقاءهم في سلم المجتمع الإسباني ووصولهم إلى الطبقات الأوفر حظاً في المجتمع.

الخلاصة

يعود أصل وجود العرب والفلسطينيين في جزر الكناري إلى فترة الهجرة العثمانية والعربية إلى أمريكا، وكان استقرارهم في الجزر نتيجة لذلك. بدأت الجالية العربية في الجزر بالمجموعة المحورية والمكونة من اللبنانيين، والسوريين، والفلسطينيين المهاجرين الذين وصلوا في العقود الأولى من القرن العشرين. وكان مفتاح الاندماج الاقتصادي متمثلاً بنشاط الباعة المتجولين في بلدات ومدن الجزر في الوقت الذي كانت فيه طرق المواصلات والاتصالات والشبكات التجارية ضعيفة، وبتنفيذ مبدأ "كثير من العمل وقليل من الصرف"، واعتماد استراتيجية توفير بعض المال الكافي لفتح متاجر النسيج والملابس عوض المهاجرون العرب عن مهاراتهم التجارية خلال سنوات الانتعاش السياحي ونمو قطاع الخدمات. لم يواجه قبولهم الاجتماعي مشاكل تذكر إذا أخذنا بعين الاعتبار أعداد الزيجات العربية الكنارية المسجلة. ويمكن إدراك حجم اندماج الجالية العربية لا بل ذوبانها في المجمع الكناري إذا نظرنا لحقيقة ان هؤلاء المهاجرون ذابوا في المجتمع الكناري دون أي ثقل أو تمرير هويتهم الثقافية لذلك المجتمع.

 قام العرب المهاجرون بتطوير علاقات مجتمعية، وفي حالة الجالية الفلسطينية فقد كانت لها خصائص هوية مشتركة. ونرى أن حجم هذه النشاطات ومجالها سواء في الجالية أو المجتمع ليس ذا بال، حيث أن المشاركة كانت الحافز الرئيس في إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي الفلسطيني في الشتات، وحيث كان المفتاح الهام هو إعادة تشكيل وإبداع تكوين الهوية الفلسطينية الجماعية من خلال شبكات الاتصال بين الفلسطينيين على مستوى المجتمع المحلي من جهة، وبينهم وبين المجتمع الوطني الواسع من الفلسطينيين في فلسطين المحتلة، والأردن وسوريا ولبنان من جهة أخرى.

وبالرغم من المحاولات غير الملائمة لـ م. ت. ف. لبناء مجتمع الشتات في العالم الغربي، إلا أن تجربة الجالية الفلسطينية في جزر الكناري تبين إمكانية إعادة بناء نسيج المجتمع مهما كان هذا المجتمع بعيداً، ومهما كان يعيش في مناطق نائية معزولة. كما أنها تبين الآثار غير المرغوب بها لتدخل المجتمع المدني ومؤسسات الدول المساندة في الشتات.

 إن مستقبل الجالية الفلسطينية في جزر الكناري غير واضح، فالجالية تختفي لأسباب طبيعية لأن معظم أعضاء الجالية كبار في السن، بل أيضاً لأن الهجرة إلى الجزر عملياً غير موجودة في الوقت الحالي. وستبقى آثارهم من خلال الخلف المولودين في الجزر والذين اندمجوا بشكل كامل في المجتمع وتوزعوا على طبقات المجتمع من الطبقة الدنيا إلى الطبقة العليا من النخب. ومن غير المحتمل أيضاً أن تكرر حركات مثل التي قادتها مؤسسة "سنعود" في الثمانينيات، آخذين بعين الاعتبار أن دور الفلسطينيين على مستوى الجالية وعلى مستوى الأطر الوطني قد تغير.

الصورة مختلفة في إسبانيا الأم، فكون الجالية تستند بالأساس إلى أعضاء من ذوي المهن العالية والمتخصصة من دارسين سابقين في البلد عمل معظمهم في الحقل العام السياسي والمجتمعي فتلاحظ مجموعات عديدة منهم نجحت في إبقاء الروابط والتكافل بين أبناء الجالية والقيام بأنشطة الدعم والتضامن لإخوانهم من الفلسطينيين تحت الاحتلال. كما يلاحظ ليس في إسبانيا فقط بل بين الجاليات الفلسطينية في أماكن أخرى من أوروبا أن اهتماماً أكبر للأنشطة الاجتماعية والثقافية والتعليمية بات يبذل دون التخلي عن الأنشطة السياسية المتمثلة أساساً بالدعم المادي والمعنوي للأهل في الوطن ومد جسور التعاون مع هيئات المناصرة والدعم في المجتمع المضيف. وفي هذا الصدد فإن مراجعة دور الجاليات الفلسطينية وما يمكن أن تلعبه من دور في الشتات سواء في الحفاظ على هويتها الثقافية، أو تحديد علاقتها مع المركز ودورها في المجتمعات المضيفة بات أمراً ضرورياً.