تقرير : الزاوية .. عشق الأرض الذي لا ينتهي

الأربعاء 02 أبريل 2014 09:39 ص بتوقيت القدس المحتلة

تقرير : الزاوية .. عشق الأرض الذي لا ينتهي

 

الزاوية .. عشق الأرض الذي لا ينتهي

دائرة شؤون اللاجئين - 2/4/2014 ( تقرير وكالة وفا) اعداد:  يزن طه

'لم يبق لنا قبر ندفن فيه'، كلمات تلخص حال كثير من الفلسطينيين بعد الاستيلاء على آلاف الدونمات لصالح جدار الفصل العنصري، الذي بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بناءه مطلع الألفية الجديدة، في أراضي الضفة الغربية.

هذه العبارة انطلقت من فم الحاج أبو نوفل، الستيني، من بلدة الزاوية في محافظة سلفيت، الذي يروي وغيره حكايات معاناة مع جدار الفصل العنصري والاستيلاء على الأراضي.

الزاوية، بلدة وادعة هادئة، ما زالت تحافظ على تقاليد الماضي في ظل التقدم التكنولوجي الذي تعيشه مناطق أخرى، فعدد السيارات فيها محدود، خصوصا الجديدة منها، ولا طابع تكنولوجي يغلب على أهلها من استخدام الأجهزة الذكية أو الحواسيب، أو غيرها من مظاهر التطور التكنولوجي الحديث.

تقع الزاوية إلى الجنوب الغربي من مدينة نابلس على بعد 35 كم منها، وترتفع 277 مترا عن مستوى سطح البحر، يحدها من الغرب مدينة كفر قاسم، ومن الجنوب رافات ودير بلوط، ومن الشمال مسحة، ومن الشرق بديا وسرطة.

برزت في البلدة الأطماع الاستيطانية منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية عام 1967، فسارعت سلطات الاحتلال إلى توطين عشرات المستوطنين وبناء المستوطنات على أراضي البلدة، واستولت على بئر المياه المعروفة بـ'بئر الزاوية'، والتي تعتبر أكبر مخزون للمياه في فلسطين، والواقعة على بعد كيلومتر واحد جنوب البلدة، في المنطقة المسماة (وادي عمر)، والتي تم حفرها من قبل النقطة الرابعة الأردنية، إبان تواجد الجيش الأردني في الضفة الغربية.

وبعد عام 1978 استولت 'الإدارة المدنية الاسرائيلية' على بعض المناطق الزراعية في البلدة، بحجة عدم زراعتها بالأشجار، التي كان أهالي البلدة يستخدمونها لزراعة الحبوب ورعي المواشي كونها مناطق جبلية، وأقامت سلطات الاحتلال تجمعات استيطانية عليها، كمستوطنة 'القناه' المقامة على أراضي المنطقة الشمالية الغربية للبلدة، ومستوطنة 'شعري تكفا'.

كما استولت سلطات الاحتلال على أراض لصالح مرور طريق في الجهة الشمالية الغربية للبلدة، لربط مدينة كفر قاسم، وبعض المواقع داخل أراضي 48 بقرى 'مسحة' و'بديا'، وهي الطريق التي اصطلح على تسميتها 'عابر السامرة'.

وفي عام 1985 أعلنت 'الإدارة المدنية' عن المنطقة الغربية للبدة، منطقة عسكرية مغلقة، حيث منعت وصول المواطنين إليها بحجة أنها منطقة رماية وتدريب لجيش الاحتلال، وفي عام 1997 عمدت سلطات الاحتلال على شق طريق بطول أربعة كيلو مترات، وعرض ثمانين مترا، تبدأ من مستوطنة 'راس العين' حتى مستوطنة أرئيل المقامة على أراضي محافظة سلفيت، لتقطع البلدة عن المنطقة الغربية والمنطقة الشمالية لأراضيها.

ووفقا لدراسة أعدها منسق مركز الديمقراطية وحقوق الإنسان، البرنامج الأكاديمي للهجرة القسرية، في جامعة النجاح الوطنية سامر عبده عقروق، ومنشورة على موقع الجامعة الإليكتروني، فإن مساحة الأراضي المستولى عليها لأغراض إقامة الجدار بلغت (47921 دونما) من الأرضي الأميرية، موزعة بواقع (22530دونما) في شمال الضفة، و(19107 دونمات) في وسط الضفة، و(6284 دونما) في جنوب الضفة.

يوم 5 حزيران عام 2004، وفي ذكرى احتلال الضفة الغربية، بدأت قوات الاحتلال تجريف المنطقة الغربية من البلدة، من أجل بناء جدار الفصل العنصري، الملاصق لبعض البيوت، حيث كان يبعد عن مدرسة ذكور الزاوية الثانوية في غرب البلدة مسافة لا تزيد عن عشرين مترا، لتبدأ المقاومة الشعبية الشاملة في البلدة.

خرج كل أهالي البلدة، المتضررون وغير المتضررين في مسيرات يومية، وفي مواجهات على مدار الساعة، محاولين الوقوف في وجه جرافات الاحتلال التي عملت على عزل نحو ثمانية آلاف دونم من أراضي البلدة والاستيلاء عليها، إلى أن جاء القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في لاهاي والذي أقر بعدم شرعية الجدار ووجوب هدمه في الخامس عشر من تموز في 2004، وهو القرار الذي نزل كالغيث على أهالي البلدة، ورأوا فيه منقذا لأرضهم من شبح الاستيلاء والتهويد، وبموجبه أجبرت سلطات الاحتلال على إعادة نحو خمسة آلاف دونم للمواطنين.

قرار إعادة جزء من الأراضي المستولى عليها، وضع أهالي البلدة في موضعين؛ الأول من استعاد أرضه كاملة، وبدأ استصلاحها، والآخر من بقيت أرضه معزولة خلف الجدار، وهنا بدأت المعاناة الجديدة، مع منع أصحاب هذه الأراضي من دخولها إلا بتصاريح خاصة لبعضهم، ووفق وقت معين.

تفتح سلطات الاحتلال بوابة الجدار عند السادسة صباحا، وتغلقها بعد نصف ساعة تقريبا، وتعيد فتحها عند الحادية عشرة، ولمدة ربع ساعة فقط، لخروج أصحاب الأراضي، الذين حالفهم الحظ في ذلك اليوم، ثم تعيد فتح البوابة عند الرابعة عصرا، ولربع ساعة، ليخرج من لم يتمكن من الخروج في المرة الأولى.

ومن هؤلاء؛ الحاجة الستينية جزيلة شقير، التي اصطحبتنا في جولة عبر الطريق التي تسلكها، يوميا لتصل أرضها، في مسير لنحو أربعة كيلومترات.

تصحو الحاجة جزيلة، عند الخامسة مساء تقريبا، تبدأ تجهيز نفسها وراحلتها، للسير ساعة تقريبا، للوصول إلى أرضها المعزولة خلف جدار الفصل العنصري، بجسد هزيل نحيل، تمتطي 'أتانها' وتبدأ 'رحلتها إلى الوطن'.

لا يثنيها برد أو مطر، أو ليل، أو حيوان ضال، أو مستوطن، أو طريق سريع، رغم الخوف الذي لم تخفه عنا، عن العبور إلى أرضها، تمضي في طريقها، وبعد نحو ساعة تكون وصلت، حيث بوابة الجدار العنصري، تبقى في انتظار دورية الاحتلال لتفتح لها 'أبواب الجنة' جنتها التي بذلت في سبيلها كل التعب والعناء والمشقة، لتلقي بعد ذلك تعبها كله تحت غصن زيتونة باسمة.

متخذة وضع القرفصاء؛ قصت علينا الحاجة جزيلة بعضا من الأحداث التي وقعت معها، واعتداءات المستوطنين شبه اليومية عليها في الأرض، بحماية من جيش الاحتلال في غالب الأحيان؛ يأتونها بصيغة التهديد: 'ماذا تفعلين هنا'، وترد عليهم بدورها بالقول: 'هذه أرضي، وأنا أفلحها، بالقوة، بالغصب، أريد أن أرى الأرض ولو أدى ذلك لموتي، أما أنتم فماذا تفعلون هنا'.

لا يأتون فرادى، بل في مجموعات من أربعة مستوطنين أو خمسة، كما تقول الحاجة جزيلة، وأحيانا يطلبون إظهار الأوراق الثبوتية خصوصا في حال كانوا محميين بجنود من جيش الاحتلال، ترد عليهم أحيانا بأنها لا تحمل تصريح الدخول للأرض، خشية مصادرته منها.

وتروي أن مستوطنا طلب لها ذات يوم قوة ما تسمى 'سلطة الطبيعة'، كانت قطفت بعضا من 'الزعتر' و'العكوب'، أخفت 'الزعتر' حينما رأتهم قادمين إليها، وأبقت 'العكوب' الذي كان مصيره الاستيلاء عليه، إلى جانب حمارها، وبقية أغراضها، حتى زجاجة الماء والبطاقة والتصريح الشخصي صودرت، بحجة أن 'جزيلة' اعتدت على الطبيعة! 

وفي ذات يوم غطت الحاجة جزيلة في النوم، وهي في انتظار أن يفتح الجنود البوابة لها، كانت صائمة مرهقة، بعد يوم عمل صعب في الأرض، أفاقت والجنود يحيطون بها، يتفقدونها، ضربت أحدهم فألقته أرضا من خوفها، قبل أن تطلب منهم أن يسمحوا لها بالمغادرة.

وتعود بالذاكرة إلى أيام المظاهرات السلمية التي كان يخرج فيها أهالي البلدة للدفاع عن أرضهم، حيث كانت من أوائل المشاركين في المسيرات اليومية، وكانت أكثر من يتعرض للاختناق، وأحيانا للضرب من المجندات.

'والله بشوف عذاب وخوف ورعب، لما بروح هناك قلبي بكون يخفق'، تلخص الحاجة جزيلة معاناتها اليومية.

ومن حيث انتهت الحاجة جزيلة، بدأ الحاج وصفي نوفل مصطفى شقير (63 عاما)، الحديث بالقول، إن أهالي 'الزاوية' كلهم كانوا يخرجون يوميا في مظاهرات 'حماية الأرض واسترجاعها'، وتحقيق الانتصار، وإن كان جزئيا على سلطات الاحتلال.

'لم يبق لنا مكان لندفن فيه، وضعونا في زاوية واحدة'، هي الكلمات التي وصف فيها أبو نوفل كما يكنى، واقع أهالي البلدة، بعد قرارات الاستيلاء على الأراضي، وهو واحد ممن استعادوا أرضهم كاملة، ومساحتها خمسة دونمات، لكنه كما يقول 'بقدرة رب العالمين، وبوقفة أهالي البلد، رجعنا الأرض، لأنه لا يمكن العيش من دون الأرض، فاعتمادنا كله عليها، نحن تعودنا على الزراعة والفلاحة ولا بديل عنها، ومنها نعتاش، فكيف نعيش دون الأرض، لذلك أجبرنا على الدفاع عنها بكل قوتنا'.

بعد استعادة الأرض، برزت أمام الحاج وصفي مشكلة عدم توفر الماء، لمساحة أرضه البالغة 5 دونمات، نظرا لسيطرة الاحتلال على أكبر حوض مائي يغذي البلدة، بل أكبر الأحواض المائية في فلسطين، كما وصف بعض المواطنين في 'الزاوية'، ووجد أن الحل الوحيد لمشكلة المياه أن يحملها من بيته في زجاجات إلى الأرض.

أما الحاج سامي، الأب لتسعة أبناء، منهن ست إناث، فمعاناته مع سلطات الاحتلال والاستيلاء على الأراضي بدأت منذ عام 1969، على زمن جده؛ مع محاولات الاحتلال المتكررة استيلاء على مئتي دونم من أراضي العائلة وعزلها، لكن الحاج سامي، تمكن من خلال نضاله المستمر ومطالبته بحقه، بكل الوسائل، ومنها القضائية، من إثبات ملكيته للأرض، وكعقاب له منع من الوصول إليها أو العمل فيها إلا بتصاريح خاصة.

فمن خلال تصريح خاص، كغيره من القلائل في البلدة، يذهب الحاج سامي يوميا إلى أرضه المزروعة بالزيتون الذي قطعه المستوطنون، والأشجار التي أحرقوها مرارا، وتلك التي زرعها من جديد لتثبيت الأرض، خاصة مع استمرار المطامع الاستيطانية، حيث 'تتصارع 8 شركات استيطانية من أجل الأرض، ويدّعون ملكيتها، ولليوم في محاكم'، يقول الحاج سامي.

ويشدد الحاج سامي على أن أرضه ليست للبيع، 'لا يمكن أبيع ذرة تراب، هذه أرضي ولأولادي من بعدي'، وذلك رغم ما يعانيه يوميا، فأحيانا يتعمد جنود الاحتلال تأخير فتح البوابة للمواطنين، للدخول أو للعودة لمنازلهم، وأحيانا يمنعهم من استكمال العمل في الأرض، ويجبرهم على تركها وترك المحصول، وأحيانا عبر حرق الأشجار وسرقة المحصول.

وفي هذا السياق، روى لنا الحاج سامي ما حصل معه يوم الرابع من تشرين أول/ أكتوبر الماضي، عندما اقتحم مستوطن الأرض بحراسة من شرطة الاحتلال، وهدده بالخروج منها بدعوى أنه ابتاعها، وكيف غادر الحاج سامي الأرض متوجها لمركز تابع لما تعرف بـ'الإدارة المدنية' شاكيا، وكيف عاد المستوطن نفسه في اليوم التالي ليطرده منها، لكنه تمكن من تثبيت حقه كونه يحمل الأوراق الثبوتية، وقدمها لعناصر الشرطة الذين رافقوا المستوطن لحمايته.

وعن التصاريح، محدودة العدد أساسا، قال الحاج سامي إن هناك شروطا أشبه بالتعجيزية للحصول عليها، تجبرك على إحضار أوراقك الثبوتية، التي تثبت ملكيتك الأرض، كما تلزمك بوقت معين لدخول الأرض والخروج منها، ولفترة محددة، وتمنعك من اصطحاب أحد، أو حمل شيء من الأرض في بعض الأحيان، وتحدد لك المساحة المسموح لك العمل فيها، 'عدا عن أنهم يجبروننا على شق طريق صعبة وطويلة، وكأننا نقوم بالالتفاف حول الأرض لدخولها'، ورغم ذلك يصر الحاج سامي على الذهاب للأرض، لأن 'المستوطنين يتربصون بنا، إذا لم أذهب في يوم، أجدهم في اليوم التالي وضعوا خيما أو بيوتا متنقلة أو حفروا الأرض أو حرثوها'، مدللا على كلامه بما حصل معه قبل ثلاث سنوات حينما خضع لعملية 'قسطرة'، حيث استغل المستوطنون غيابه ووضعوا 'كونتينر' في الأرض، مستدركا أنه تمكن من طردهم بعد تقديم شكوى، وإظهار الأوراق الثبوتية لدى إحدى المحاكم الإسرائيلية.

باتت معاناة هؤلاء ومعهم كثيرون، من أبنائهم وذويهم، عادة يومية، يتجرعونها، كما يتجرعون شربة الماء، حيث لا يمكنهم ترك أرضهم، تماما كعدم مقدرتهم التوقف عن شرب الماء يوما، أو تنفس رائحة الأرض.

 

 

 

 

لا تتوفر نتائج حالياً