قرى النقب بين مرارة المعاناة وروعة الصمود قرية الغراء

الأربعاء 15 سبتمبر 2010 11:29 ص بتوقيت القدس المحتلة

قرى النقب بين مرارة المعاناة وروعة الصمود قرية الغراء

 

حقاً إنها قرية تسر الناظرين.. جمالها رائع وصحراؤها خلابة، أجواؤها نقية وأراضيها سهلة وجبلية، غاية في الروعة ولمسة من الإبداع الرباني، موقعها متميز، وإن صح التعبير 'سامراء النقب'. جبالها شاهقة العلو، تطل على كافة القرى والتجمعات العربية، وموقعها الاستراتيجي زاد من خصوصيتها المتميزة. وإن صح المثل القائل 'كل الطرق تؤدي إلى روما' جاز لنا أن نقول: كل الوهاد تؤدي بك إلى قرية الغرة. ومن على شارع رقم 31 الذي يربط مدينة بئر السبع وعراد، وتحديدا من مدخل قرية الأطرش،

  دخلنا قرية الغرة قبيل الغروب. وبعد أمتار من الشارع الرئيس يجد الزائر كل مقومات الصمود وحياة البادية؛ أراضيَ عليها تجمعات المواطنين على مد البصر، طرق وعرة ومتشعبة منتشرة في كل زاوية، أشجار الزيتون تزين المكان والقمح والشعير والكلأ عشب نابت فيها. والمشهد رائع بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. وأنت ترى أمام عينيك خيلا وخيالة يرتدون اللباس التقليدي على ظهور الخيل الأصايل، وعلى سفح الجبل قطيع من الأغنام ترعى في الأرض الخضراء وحولها الإبل والسهول والجبال والسماء الصافية النقية تذكرك بعظمة الآية الكريمة:

 (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت) .

 بعد نحو 7 كم من الشارع الرئيس تقترب من قرية الغرة، لا شي محسوس يدلك على المكان، لا يافطات ولا أسماء حارات ولا شوارع، لكنها طرق ترابية يعرفها أهلها تمام المعرفة، وبالرغم من المساحات الواسعة والشاسعة وبالرغم من نسبة السكان العالية في المنطقة، وبالرغم من انعدام اليافطات الدالة على القرية، لا يجد الزائر معاناة كبيرة، إذ يكفي أن يسأل طفلا صغيرا أو عجوزا يرعى الغنم عن القرية أو حتى عن اسم من تريد زيارته لتجد الجميع يعرف الكل تمام المعرفة -ولهم طريقة خاصة في الإرشاد- حتى تصل إلى المكان المنشود. ***

 عند غروب الشمس كان المشهد رائعا، لدى وصولنا إلى ديوان الأستاذ معيقل الهواشلة، أحد سكان القرية، حيث المنظر الخلاب وضوء الشمس الذي بدأ يخفت ويسدل أستاره، والبيوت في سفح الجبل زادها شفق المغيب جمالا وبهاء، وثغاء قطيع الأغنام بجانب الديوان له عند غروب الشمس رونق، والقهوة السادة في الديوان حاضرة لاستقبال الضيوف. بعد احتساء القهوة سألنا مضيفنا الأستاذ معيقل الهواشلة، أحد أبرز القياديين المناضلين من أجل الاعتراف بالقرى العربية في النقب والمدير السابق لقسم المعارف في المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها في النقب، سألناه عن موقع قرية الغرة فقال:

 'تقع الغرة شرقي مدينة بئر السبع بنحو 25 كم، يحدّها من الشرق قرية تل الملح ومن الغرب خربة الوطن ومن الجنوب قرية المشاش ومن الشمال قرية وادي غوين، وجميعها قرى غير معترف بها. وسميت الغراء نسبة للغرة البيضاء، وهي هضبة ومرتفَع يقع وسط القرية ولونه أبيض جميل ومميز يشد الناظرين من جماله وبهائه'. تسكن في قرية الغراء عائلات الهواشلة والأطرش والبطيحات والحريزي واليسرة والفريجات وغيرها، وجميعهم من أصول عشائر القديرات التي تعود أصولها من بلاد شمر في الجزيرة العربية، وقدموا إلى البلاد قبل مئات السنين، ويصل عددهم في النقب نحو 40 ألف نسمة وهم يشكلون نحو ربع سكان عرب النقب.

 ويصل عدد سكان قرية الغرة اليوم نحو 1500 نسمة. وتبلغ مساحة الأراضي التي يمتلكها أهالي الغرة 8 آلاف دونم تملكوها منذ مئات السنين. والذي يميز الغراء عن باقي القرى كونها موجودة في مكان مرتفع وفيها مغر وآبار قديمة كانت تستخدم للمياه وخزن الحبوب وتربتها سهلة للحفر ولذلك تكثر فيها الآبار.

شواهد تجذر السكان في الأرض

 يقول السيد معيقل الهواشلة: 'ولد جدي جمعة فريج الهواشلة هنا في الغرة في بدايات القرن الماضي، وفي سنة 1923 سافر لأداء فريضة الحج على ظهور الإبل من الغرة حتى مدينة العقبة الأردنية وهناك سافر إلى الديار المقدسة عبر سفينة حتى ميناء جدة ومن هناك إلى مكة المكرمة وكان من أوائل الذين أدوا الحج في ذلك الوقت'. وعرف عن المرحوم أنه كان ميسور الحال، وكان لدية مغر وآبار لخزن الحبوب تسمى'منطرة' وكانوا يحفظون فيها الحبوب لسنوات المَحْل، فكان يأتيه الناس لشراء الحبوب والتبن. ويضيف الهواشلة: 'حدثتني جدتي أنه جاءت كتيبة من الجيش التركي سنة 1918 ومرت من الغرة، فقدم جدي واجب الضيافة وذبح 6 من رؤوس الأغنام دلالة على كرم الضيافة وعلى العدد الكبير لأفراد الكتيبة'.

  وتشتهر قرية الغرة بوجود أضرحة للأولياء الصالحين، وبالقرب من الأضرحة تمر طريق تاريخية من سوريا حتى السعودية في بلاد الحجاز. يوجد في الغرة 4 آبار مياه مشهورة، حيث تنبع المياه بشكل مستمر ويومي، مما جذب الناس للوصول إليها وزيارتها بشكل مستمر، وفيها مناطق خاصة ذات هضاب تتناسب مع تضاريس الطقس، ففي فصل الشتاء تتمتع القرية بوجود أماكن خاصة تأوي الناس من البرد القارس بينما يتمتع سكانها صيفا بالهواء الطلق والأجواء الرائعة. ويعتاش غالبية السكان على تربية المواشي والزراعة والبقية عمال ومقاولون ومدرسون ومدرسات.   

 معاناة لا تعرف الحدود تعاني قرية الغرة، شأنها شأن كافة القرى والتجمعات غير المعترف بها في النقب، من حرمانها من أبسط مستلزمات الحياة اليومية، غير أن أكثر ما يجد أهالي الغرة من معاناة -كما يقول معيقل الهواشلة- كون'جميع الطلاب من الروضة حتى الثانوية يسافرون عدة كيلومترات للوصول إلى المدرسة الابتدائية والإعدادية في مدرسة الأطرش، بينما يضطر طلاب الثانوية للسفر إلى حورة وقصر السر وشقيب السلام'. وتفتقر القرية لوجود مراكز صحية تقدم الخدمات للسكان في القرية، وأقرب مكان صحي هي عيادة الأطرش والتي تبعد 4 كم!!! وهذا يترك آثاره الواضحة على صحة السكان خاصة الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل.   انقطاع تام عن العالم الخارجي ولكون قرية الغرة تحيطها من كافة الجهات قرى غير معترف بها، فإن القرية تعيش حالة من الانقطاع التام والشامل عن العالم الخارجي في حالة سقوط الأمطار وجريان الأودية المحيطة بالقرى، فلا يتمكن أحد من الخروج أو الدخول، ويستحيل حينها نقل المرضى إلى المستشفيات، أما الطلاب فبطبيعة الحال يبقون رهائن البيوت ويكتب في يومياتهم 'يوم ماطر' بينما يعجز العمال عن الوصول إلى أماكن عملهم، مما يزيد من الأعباء الاقتصادية، التي تعتبر سيئة في أحسن الظروف لدى الكثير من العائلات في القرية.   الأرض محور الصراع لا يحتاج القارئ لكثير شرح عن أسباب هذه المعاناة التي يجدها الأهل في النقب، وأصبح من الواضح ومن المعلوم أن الأرض تشكل محور ولب هذه المعاناة وأن عدم الاعتراف بالقرى يهدف بالأساس إلى الاستيلاء على الأرض ومصادرتها.

السيد يحيى الهواشلة من سكان الغرة، يعلم جيدا أنه دفع وما زال يدفع ثمنا باهظا للتمسك بالأرض. ولما طلبنا منه أن يلقى الضوء على جزء من هذه المعاناة قال: 'ما زلت أذكر تماما كيف كنت أقطع مسافة 12 كم ذهابا وإيابا من البيت والى مدارس كسيفة على مدار 4 سنين متواصلة، كنت أستيقظ في الساعة الخامسة فجرا وأصل الساعة السابعة والنصف، ولا أذكر أنني تأخرت عن الوصول إلى المدرسة إلا لأسباب طبيعية كسيول الأمطار وجريان الأودية'.

 ورغم زخم المعاناة سطر المحامي آدم الهواشلة -ابن القرية- نموذجا رائعا ومميزا في الإصرار والتغلب على العقبات والمعاناة، حيث واصل دراسته، ودرس المرحلة الابتدائية في مدرسة الأطرش والثانوية في كسيفة وجت المثلث، وأكمل مشواره التعليمي في جامعة 'هارتد فورد' في بريطانيا وتخرج منها محاميا. يقول المحامي الهواشلة: 'تمكنت بحمد الله تعالى من إكمال مسيرة التعليم رغم المعاناة التي وجدناها، وكان للإصرار دور كبير في النجاح بعد توفيق الله تعالى. وأنا كمحام أكثر من يدرك أن هذه القوانين جائرة بحق الأهل في النقب، وإنما تهدف إلى تجريد الناس من أرضهم، وفي اعتقادي أنه لا توجد على وجه الأرض دولة تقوم بهدم بيوت مواطنيها، كما هو الحال في بلادنا. هم يعتبرون أن الهدم يأتي بحجة البناء غير المرخص في الوقت الذي يحرمون الناس من إمكانية استصدار تراخيص مناسبة للبناء. وأشعر عند مرافعتي في ملفات هدم البيوت ومصادرة الأراضي أنني أكثر المحامين دراية بما يشعر به السكان العرب في النقب لكوني أعيش هذا الواقع في حياتي اليومية'.

درس في الثبات

  يقول معيقل الهواشلة: محور هذه المعاناة يدور في ملف الأرض وملكيتها، نحن ورثنا هذه الأرض عن الآباء والأجداد، قبل أن يأتي غيرنا ويدعي الملكية. هذه قناعة بدهية لا يختلف فيها اثنان. ومن هذا المنطلق حقنا في الأرض ثابت يؤيده وجودنا وآثارنا في هذه الأرض المباركة. ويتابع: المؤسسة الإسرائيلية حرمتنا من أبسط مقومات الحياة في محاولة بائسة منها لإجبارنا على التخلي عن الأرض، لكننا فضلنا مرارة الحياة على أرضنا مقابل رغد العيش بدونها. وخلال الصراع المستمر على الأراضي فإن الدولة كما يقول الهواشلة 'تطلب منا إثبات ملكيتنا على الأرض، وهذه مصيدة تحاول المؤسسة الإسرائيلية جرّنا من خلالها إلى المحاكم. ونحن لا نثق أبدا بقرارات ومداولات المحاكم الإسرائيلية في كل ما يتعلق في الأرض، وتجارب التاريخ أكدت أن المحاكم الإسرائيلية لم تثبت أي حق لعرب النقب في أي ملف يتعلق بالأرض'. ويضيف: 'شواهد وجودنا هنا واضحة وجلية، وليبحثوا هم عن مكان وجودهم، وهذه مقبرة المشاش تؤكد بوضوح حقنا في الأرض، فهذه المقبرة تحتوي على رفات أجدادنا الذين سكنوا القرية منذ مئات السنين. ونحن من جانبنا لن نترك أرضنا تحت أي ظرف كان، حتى لو كلفنا الأمر أن نعيش على القديد، فسنبقى على أرضنا لأنها بالنسبة لنا وجود وبقاء، وكل إنسان يحاول أن يبيع الأرض لا يستحق أبدا أن يدفن فيها، وقوة الإنسان وعزته تمكن في وجوده على أرضه، ووضع اللاجئين أكبر مثال على ذلك'.

 مشاريع الصمود وكان من أبرز مشاريع الصمود التي شهدتها قرية الغرة مشروع مد خطوط المياه للسكان ووضع حد لمأساة انقطاع المياه وانعدامها في كثير من الأحيان. وكان لمؤسسة النقب للأرض والإنسان مساهمة فعالة في توصيل خط المياه لبيوت المواطنين، حيث قام الأهالي بمد أنابيب المياه لمسافة 7 كم واليوم تتوفر المياه بشكل مستمر وكافٍ لبيوت

القرية وملف الاعتراف

  لا تزال قرية الغرة غير معترف بها، لكنها في طور الاعتراف، حيث طالب الأهالي -وخاصة عائلة الهواشلة- بتوسيع الخارطة الهيكلية لقرية الأطرش، التي اعترف بها مؤخرا ضمن نفوذ مجلس أبو بسمة الحكومي المعين. يقول معيقل الهواشلة: 'كنا قد توجهنا إلى مؤسسة 'بمقوم' التي تعنى بجانب التخطيط، وطلبنا ضمنا لقرية الأطرش وتوسيع الخارطة الهيكلية حتى تشمل بيوتنا، وقامت الجمعية بتقديم طلبنا إلى الجهات المختصة، وعقدنا عدة جلسات في اللجنة اللوائية للتخطيط وزودناهم بالمعطيات التي تؤكد حقنا في مطالبنا، ووجدنا آذانا صاغية من لجنة التخطيط والبناء، التي وافقت على مطالبنا، غير أن مجلس 'أبو بسمة' رفض فكرة ضمّنا إلى قرية الأطرش، في محاولة لإقناعنا بالرحيل إلى قرية الأطرش والتخلي عن أرضنا، وهذا ما نرفضه جملة وتفصيلا'. ويضيف معيقل الهواشلة: 'إصرارنا وثباتنا على مطالبنا أجبر مجلس 'أبو بسمة' على الخضوع لمطالبنا، وبالتالي قدّم خرائط تطالب بتوسيع الخارطة الهيكلية لقرية الغرة'. هذا وتحتوي قرية الغرة على مسجد 'المرابطون' الذي له من اسمه نصيب كبير، وتحول المسجد إلى معلم من معالم الرباط وشاهد آخر على تجذّر أهالي قرية الغرة في أرضهم.

تقرير  سلمان ابو عبيد

 

 

لا تتوفر نتائج حالياً