اللد، احتجاج عنيد في مخيّم اللاجئين أبو عيد

الأحد 23 يناير 2011 11:07 ص بتوقيت القدس المحتلة

اللد، احتجاج عنيد في مخيّم اللاجئين أبو عيد

 

دائرة شؤون اللاجئين - على اللافتة المرحبة بالقادمين لخيمة الاعتصام المنصوبة بجانب البيتين المتبقيين من آخر حيّ مهدوم في مدينة اللد، كتب ببساطة: «مخيم اللاجئين أبو عيد»، فكما تبدأ كلّ يوميات جرح فلسطيني، هكذا بدأت قصة عائلة «أبو عيد».

تعود أصول عائلة «أبو عيد» إلى منطقة الحولة، هجّروا منها ولجأوا إلى صفد، وهجّروا ثانية وادي الحمام في سهول حطين، وفي أوائل الخمسينيات تم تحويل مسكنهم، ضمن مخطط «هندسة المجتمعات» الإسرائيلية، إلى ضواحي البقية الباقية من مدينة اللد بعد الدمار الذي اجتاحها في النكبة، فاشتبكت خيوط قصتهم، منذ ذلك الحين، بخيوط حكايات أهل اللد أجمع. تملك العائلة الأرض لكن السلطات الإسرائيلية تنكر عليهم حق بناء مسكنهم عليها، لقد تصرفت السلطات في مدينة اللد بعد نكبتها كإمبراطور يلعب الشطرنج بحجارة من لحم ودم على طاولة يلعب عليها وحيدًا، يحرك تارة الحجارة البيضاء وتارة أخرى الحجارة السوداء.

تستطيع أن ترى حارة «ورود الربيع» اليهودية من وسط حطام المنازل السبعة، وتسأل نفسك: هل عليّنا أن نقول الحارة الجارة أم الحارة الجائرة؟ أقيمت هذه الحارة خصيصاً لاستيعاب القادمين الجدد من روسيا في أواسط التسعينيات وأعطي سكانها اليهود تسهيلات وتخفيضات هائلة في قروض الإسكان، ترى هذه البيوت من هنا، خطوة أخرى بلعبة الشطرنج المستمرة التي تفضّل الحجارة البيضاء. لكنك حين تسمع القصة بأكملها من وسط دمار المنازل وعلى لسان اياد أبو عيد، تعلو وجهك ابتسامة ساخرة لمثال آخر على العنجهية السلطوية المسيطرة على التفكير والتخطيط المؤسساتي لهذه البلاد:

«حارة بأكملها تجهّز بظروف اشهر لتوطين قادمين جدد وسط اختراق لكل قانون مكتوب وغير مكتوب للتخطيط والبناء، وتصادق خارطتها الهيكلية في غضون ليلة واحدة! نعم، جلسة واحدة. أما نحن فنحاول منذ عشرات السنين الوفاء بشروط السلطات وتسوية الوضع قانونيًا لنبني بيوتنا على أرض نملكها ونقابل برفض تامٍ. ليس هذا وحسب، بل هنا وبانعكاس مرآة مخيف تلزم فقط بضع ساعات (أربع ساعات) لتقوم قوات الهدم، من شرطة وجيش، بإخلاء وتدمير حيّنا بأكمله بأسلوب وعدد وعدة تليق بمن اعتاد شن الحروب، ولا يفقه مثاليات التعامل الإنساني وفهم الاحتياجات وصوْن الحقوق».

متحف الردم

عندما وصلنا إلى اللد للمشاركة في أنشطة الاحتجاج، كان الظلام قد خيّم من حولنا وكل ما استطعنا رؤيته كان آثار المطر الذي انهمر ذاك الصباح. وصلنا إلى خيمة الاعتصام، لكننا لم نتوقف عندها، بل اتجهنا إلى ما ورائها لنرى موقع الجريمة. تحتّم ظروف المسار عليّك أن تبقي نظرك على موقع رجليك، فالأرض طينية مليئة بمستنقعات المياه الصغيرة، وبعد لحظات تجذب زاوية نظرك أحجار مكوّمة بردم على طرفيك، وعندما ترفع نظرك تجد نفسك وسط حي كامل من الردم. ردمٌ أينما تنظر، البرد قارس عند خيام اللاجئين الجدد، والريح الصقيعية التي كانت تهب بالمكان وسط عتمة الليل أضافت للمشهد روعةٌ ورهبة.

كان صوت أبو عيد يشرح في خلفية المشهد بوتيرة من قد أعاد هذا الكلام مئات المرات لمئات الزوار: «كالعادة، اجتاحونا ليلاً لم يكن هنالك مجال لا لجدال ولا لمقاومة ما يحدث، مثل كل مرة». لكنك تنظر حولك ولسان الحال يقول «لا، ليس كالعادة!». سبعة بيوت مهدومة بدرجة تلغي إمكانية الإدراك أين يبدأ الواحد منها وأين ينتهي الآخر، منظر وكأنه متحف للعنف.

آخر ما قاله أبو عيد كان كعادة تلك المواقف قول يهدف تعزيزنا ليتعزز هو بنفسه لسماع نفسه يعزز الآخرين. سخرية القدر هي أن تجد العزاء في كلمات من جئت لتعزي، قولٌ كان لخّص تاريخ نضال شعب ببعض الكلمات «هجرّونا مرتين والمرة هدموا البيوت لكن لا شيء، من بنى هذه البيوت سيبني غيرها!».

«دام» الأمل بالاحتجاج

مع كلمات الإصرار العنيد لإياد أبو عيد، بدأت رحلة العودة إلى خيمة الاعتصام تحمل معنى أكبر من فقدان الكلمات وتلعثّم اللسان المحرج في تلك اللحظات، التي تفقد فيها التعبير عن تضامن يكفي للتهوين من المأساة.

بدأ تأثير طابع الفعالية الاحتجاجي يأخذ مجراه، وصولنا إلى الخيمة تزامن مع وصول التظاهرة إلى الخيمة، ليتطور التعزيز أكثر وسط صديق يقابل صديقه وولد يرافق أمه ومعارف يعاودون ربط أواصر التعارف، ولا أجمل من لقاء الرفاق! ففي نهاية المطاف «الكل يعرف الكل».

بدأت العروض، جذب الشعر المحكي انتباه الحضور، وكان يذكّر بطريقة «الكلمة المحكية« التي تطورت كأسلوب احتجاج في جيتوهات الولايات المتحدة، كما رفع حضور الفنانين من الشعور بالراحة. ومن هناك ارتفعت المعنويات إلى لحظة انبساط الأسارير أكثر فأكثر حين رافق الأطفال غناء فرقة «دام» اللدواية ذات الشهرة العالمية. كان الاولاد والبنات يغنون بقوةّ كلمات الأغنية: «مين إرهابي؟! أنا ارهابي؟! كيف إرهابي وأنا بدافع عن بلادي؟»، غنى الأطفال بسذاجة من يشعر برضى السموات عن اذ وهبته لحظة مشاركة النجوم «ولاد بلدهم..اللي وصلوا لبعيد! » بالغناء وصناعة الحدث. هكذا، وبتسللٍ مقاومٍ يعي الناس خطوط الدفاع النفسية التي يجب اختراقها بدون إثارة انتباهها، فتسللت إلى وجوه الحضور ابتسامات الأطفال الساذجة لتحتل تعابيرهم ونفوسهم وترسم على وجههم علامات الرضى والأمل!.

وكأن المشهد كله يصرخ كلمات درويش:

«نيرون مات،

ولم تمت روما ! بعينيها تقاتل!

وحبوب سنبلةٍ تموتُ،

ستملأ الوادي سنابل !.... »

لقد زوّدتني خيمة الاعتصام ببعض الأمل، حيث شاهدت كيف تستطيع الفعاليات الاحتجاجية تحريك الناس رغم تواضعها أو لربما أحيانًا بسبب تواضعها!.

في النهاية، كلمتان عن العرب في المدن التاريخية

كان غياب المتضامنين العرب من خارج مدينة اللد واضحاً وقوياً، وهذا يناقض المنطق السياسي السليم ومهام التضامن الوطني. فتفاصيل الهجمة على المدن الفلسطينية التاريخية ولاسيّما في منطقة المركز، تغيب عن وعينا الجماعي، خصوصًا في ظلّ الهجمة الشرسة على كلّ مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، كما تشوّه الصورة المنقولة عن الدعاية الإسرائيلية هوية هذه المدن كمكان معاناة ومقاومة مركزيّ. فالنظرة الكولنيالية الفوقية الإسرائيلية نحو سكان هذه «الأحياء» كسكان «دونيين» فقراء ومتورطين في الإجرام، تنتقل إلينا لتنسى غالبيتنا أن هذه الأمكنة هي خط المواجهة الأول مع المخططات الإسرائيلية منذ النكبة، وأن النكبة تجسدت برهابتها بدمار المدن.

 

 

لا تتوفر نتائج حالياً