كمال حصان في ذاكرة الأيام: دخل الصهاينة قرية القالوجة ونسفوا منازلها جميعاً ودمروها تدميراً كام

الجمعة 13 يوليو 2018 10:18 م بتوقيت القدس المحتلة

كمال حصان في ذاكرة الأيام: دخل الصهاينة قرية القالوجة ونسفوا منازلها جميعاً ودمروها تدميراً كام

يستعيد كمال حصان ذاكرة النكبة؛ حين كان في الثامنة من عمره، فيقول: خرجنا من القرية مذهولين غير مصدقين ما حصل.  خرجنا حفاة عراة، لم نكن نرتدي إلا ما كان يستر جلودنا من هذا البرد القارس من أيام شباط القاسية. (هذا المشهد لم يكن  ليغيب عن بالي لحظة واحدة حتى اليوم). اتجهنا مع أبي وبعض الأقارب مباشرة إلى قرية بجوار قرية دورا الخليل، تجاوزناها إلى أن وصلنا قرية دورا، وكان ذلك صباحاً.

من الفالوجة

في فلسطين، في قرية الفالوجة التي تقع إلى الشمال من مدينة غزة، ولد كمال حصان.  هذه القرية التي تبعد عن مدينة المجدل 19كم، كانت مساحتها 517 دونماً، ومساحة أراضيها  38038 دونماً؛ أما عدد سكانها فبلغ عام 1945 قرابة 4670 نسمة، وهي بذلك ثانية قرى القضاء بعدد السكان. 
بعد إعلان الكيان الصهيوني دولته المزعومة في 15 أيار من عام 1948؛ دخل الجيش المصري قرية الفالوجة، وكان في استقباله أهالي القرية الذين كانوا قد أقاموا التحصينات اللازمة، وحفروا الخنادق، وتسلحوا، وبدأوا عملياتهم ضد العصابات الصهيونية.  ومما أذكره حينها: أن المدافعين عن القرية هاجموا باصاً لعصابات الهاغاناة الصهيونية، كان يمر عبر الطريق العام، وقتلوا كل من فيه.

ومع دخول الجيش المصري القرية؛ قطعت قواته طرق الإمداد الصهيونية التي كانت تأتي من شمال فلسطين إلى المستعمرات الجنوبية في النقب، ونشرت عناصرها على الطرق، ونصبت الكمائن من قرية  بيت جبرين حتى الفالوجة.  وقد كان رد الصهاينة على ذلك بأن حاصروا قريتنا (الفالوجة)، حصاراً شديداً، استمر ستة أشهر متتالية. تقاسمنا مع الجيش المصري خلالها لقمة الخبز والصمود معاً.

كان في أرض الفالوجة لواء مصريًا؛ كان بقيادة السيد طه، الذي كان يُلقَّب بـ"الضبع الأسود". وخلال هذه الفترة الزمنية؛ وقعت في القرية ثلاث معارك عنيفة جداً:

الأولى: في تشرين الأول عام 1948؛ استبسل فيها المدافعون عن القرية مع  الجيش المصري، وقدموا أروع البطولات، وسقط منهم خيرة رجالاتهم، وقد بلغوا مئة شهيد: 40 شهيداً من الجيش المصري؛ والباقي من أبناء  القرية التي كان تعدادها وقت ذلك قرابة خمسة آلاف نسمة.

ووقعت بعد ذلك معركتان أخريان، استبسل فيه أيضاً المدافعون من أهل القرية بمساندة اللواء المصري الموجود في القرية.  وقد كان لقائد اللواء المصري (السيد طه) دور كبير في تكبيد العصابات الصهيونية خسائر كبيرة في الأرواح؛ ففي معركة واحدة، استطاع هذا الضابط، بخديعة عسكرية منه، أن يستدرج هذه العصابات إلى ثغرة كان قد فتحها لهم، ليطبق بعدها على المهاجمين، ويكبدهم أكثر من مئتي قتيل صهيوني.

بقيت الفالوجة صامدة، لم تتراجع، ولم تستسلم؛ رغم الحصار الشديد، حتى يوم 26/2/1949، (يوم توقيع اتفاقية رودس بين الحكومة المصرية والعصابات الصهيونية)، وقد اتفق فيها الجانبان على انسحاب الجيش المصري من القرية؛ وبالتالي سقطت بأيدي الصهاينة. وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً لأبناء القرية الذين صعقوا بذلك؛ إذ لم تسقط قريتنا الفالوجة بمعركة عسكرية، بل وفقاً لـ"اتفاقية فصل قوات".

بداية الشتات 

وفي صباح ذاك اليوم المشؤوم؛ أذكر وقتها أنني كنت موجوداً إلى جانب والدي، وكان الجو ممطراً وبارداً جداً. بدأ الجيش المصري ينسحب من القرية باتجاه غزة، والضابط المصري (قائد اللواء السيد طه) كان موجوداً في مقدمة تلك القوات.

أثناء الانسحاب؛ ذهل اليهود مما شاهدوه؛ لقد كانوا يظنون أن عدد جنود الحامية المصرية كبير جداً، مقارنة بالصمود الأسطوري لتلك القوات أثناء حصار القرية، ومقارنة بما أوقعوه في صفوفهم من خسائر بشرية فادحة؛ لقد رأوا أن عدد جنود الحامية المصرية أقل بكثير مما توقعوا، وكان ذهولهم أكبر من ذلك؛ حين رأوا عتاد تلك القوات الذي اقتصر على بعض الأسلحة الفردية الخفيفة. وهذا ما حدا بأحد الضباط الصهاينة إلى أن يرفع يده تحية لهؤلاء الأبطال.

 لقد كانت إرادة هؤلاء الحفنة من الرجال أقوى من أسلحة الصهاينة الثقيلة والمتنوعة؛ بل كان إيمانهم بالنصر لا يعتريه شك؛ لكنها المؤامرة.

أهالي القرية انقسموا في الرأي؛ فمنهم من فضل الخروج  مع الجيش المصري؛ خوفاً من الفتك بهم والانتقام منهم، ليتجهوا إلى منطقة "دورا"، وبقي قسم آخر ينتظر؛ ولكن لم يدم هذا طويلاً؛ فسرعان ما دخل الصهاينة القرية، ونسفوا منازلها جميعاً ودمروها تدميراً كاملاً. ولم يبق ظاهراً منها سوى ركام مسجد الشيخ أحمد الفالوجي وقاعدة  مئذنته؛ وبالتالي أجبروا من بقي على الرحيل إلى مدينة غزة.

خرجنا من القرية مذهولين غير مصدقين ما حصل؛ خرجنا حفاة عراة، لم نكن نرتدي إلا ما كان يستر جلودنا من هذا البرد القارس من أيام شباط القاسية. (هذا المشهد لم يكن  ليغيب عن بالي لحظة واحدة حتى اليوم).  اتجهنا مع أبي وبعض الأقارب مباشرة إلى قرية بجوار قرية دورا الخليل، تجاوزناها إلى أن وصلنا قرية دورا، وكان ذلك صباحاً.

والدي كان مصراً على ألا يدخل قرية دورا، رغم وجود أصحاب له فيها.  لم يكن يريد أن يدخلها  لكي لا يشاهده أحد ممن يعرفه ويراه على هذه الحال؛ فوالدي كان وجيهاً في قريته ومجاهداً فيها؛ بل كان رئيساً لبلديتها. وكان أيضاً إضافة إلى كل ذلك، من كبار مالكي الأراضي فيها. 
ولسوء الحظ؛ عندما خرجنا من القرية، بعد حصار دام ستة أشهر؛ لم يكن لدينا كما يقال: "شروة نقير"، أي لا شيء. عزّت على أبي نفسه؛ فقال لنا وقتها: لن أذهب إلى أي مكان يعرفني فيه أحد.

وجدنا في أطراف قرية دورا مغارة كبيرة كانت تقع شمال القرية.  ذهبنا إلى هذه المغارة، وتجمع كبار العائلة وأخذوا يتشاورن فيما بينهم.  ودخل أحدهم إلى المغارة فوجدها مليئة بالأشواك؛ فأشار عليهم بحرق المغارة لكي يتخلصوا من الأشواك، وما يسكنها من الأفاعي والعقارب والحشرات الضارة.   أشعلوا النيران فيها، وقد رأيت بأم عيني، أثناء حرقها، بعض الأفاعي تخرج منها.  بقيت النار مشتعلة في المغارة حتى الظهيرة، بعدها انطفأت، ودخلت النساء إليها، وبدأن بتنظيفها. ودخل بعد ذلك الجميع من أطفال ونساء ورجال؛ ليقوا أنفسهم برد تلك الأيام القاسية.  وأثناء وجودنا في المغارة؛ ذهب بعض الشبان إلى قرية دورا وأحضروا بعضاً من الطعام. 

بعد ثلاثة أيام قضيناها في المغارة؛ قال لنا والدي: لن نبقى هنا؛ سنذهب إلى بلد لا يعرفنا فيه أحد، سنذهب إلى سورية، إلى منطقة حوران؛ فهناك لنا أبناء عمومة يمكن أن نسكن عندهم ونتدبر أمرنا. انطلقنا في صباح اليوم التالي؛ وسرنا حتى وصلنا إلى مدينة أريحا، وكنا متعبين جداً؛ فأقمنا هناك في بساتينها ليلتين.  كنا جياعاً، ولا مال لدينا، والأطفال يتضورون.  أذكر وقتها أن ثلاثة من رجال العائلة ذهبوا إلى الأراضي الزراعية القريبة على حمار، وأحضروا خرجاً (وعاء جلدي يوضع على ظهر الحمار) مليئاً بالفجل والبصل الأخضر، وأكواماً من الخبز جلبوها من أهالي المدينة، وكان الناس يأكلون الفجل وعليه التراب، وذلك لعدم وجود الماء لغسله، ويغمسون الفجل وأوراق البصل مع الخبز.

آه، آه، آه (يتنهد الشاهد كمال حصان بحرقة السنين الطوال. يتنهد تنهيدات ذاك الطفل الذي لم يتجاوز الثماني سنوات عند وقوع النكبة، ويرصد ويسجل في تلك الذاكرة الوقادة كل تلك التفاصيل المؤلمة الحزينة المفجعة)، ويتابع، فيقول: "هذه المشاهد لم تذهب عن بالي لحظة واحدة، وكأني أراها الآن حية  أمامي".

في اليوم الثاني؛ كان الطعام  أيضاً كاليوم الأول (فجل وبصل وخبز). عندها، قال والدي: علينا أن نستمر قاصدين درعاً.

في أريحا استأجرنا سيارة شحن كبيرة، وركب الأولاد والنساء والشيوخ والرجال.  انطلقنا لنصل ليلاً إلى منطقة الرمثا الأردنية الحدودية مع سوريا، نزلنا هناك في ضواحيها، علم أهالي المنطقة بنا وعرفوا أننا لاجئون فلسطينيون ننوي الذهاب إلى أقاربنا في درعا؛ تطوع أحد رجال المنطقة وذهب إلى درعا وأخبر أقاربنا بوصولنا إلى الرمثا.  وبالفعل، جاء معه أحد الأقارب من درعا، وأحضروا لنا دواب وركب النساء والأطفال ومشى الرجال خلفهم.  طبعاً؛ لم نستطع دخول سورية من الطريق النظامي، بل دخلنا تهريباً؛ لأننا لم نكن نحمل معنا أية وثيقة تثبت شخصيتنا؛ فلا  جواز سفر ولا هوية ولا أي شيء من هذا القبيل.

في مخيم درعا

لم نسكن بداية في مخيم درعا، ولكن بعد ستة أشهر، وبعد أن كثرت أعداد اللاجئين هناك، وخاصة من قرى حيفا (اجزم وجبع وعين غزال)؛ عُيِّن أبي مديراً على المخيم (كان يسمى ضابط المخيم وقتذاك)؛ وذلك بسبب نشاطه وتشكيله "لجنة شعبية" من أبناء المخيم؛ تعنى بشؤون اللاجئين.   فسكنّا المخيم.  وقد زرته مرة في مكتبه، الذي كان عبارة عن خيمة، فيها طاولة وكرسي وبعض الأوراق. وسعى والدي خلال ذلك إلى إيجاد أرض للاجئين، بالتنسيق مع الحكومة السورية ووكالة الغوث.

ومما أذكره في تلك الأيام؛ مطعم الأونروا الذي كان يقدم الوجبات الغذائية التي كان بعض اللاجئين يعتمدون عليها كلياً، ويبقون على تلك الوجبة إلى اليوم الثاني؛ إلى أن تقدم لهم وجبة النهار الجديد. أيام قاسية عشناها؛ البرد، والجوع، والقهر، والحالة النفسية، وبقجة الألبسة، وحلم العودة الذي لم يفارقهم لحظة واحدة.

على الصعيد الشخصي؛ دخلت المدرسة وأكملت دراستي الابتدائية في مدارس الأونروا، أكملت الدراسة وحصلت على "شهادة الكفاءة" (الإعدادية)، وكنت أدرس في النهار؛ وأعمل في الليل في التهريب بين درعا و الرمثا؛ أشتري خمسة أو سبعة كيلوغرامات من السكر من الرمثا وأقطع 15 كم لأعود بها إلى درعا، فأبيعها في الصباح لأربح نصف ليرة سورية، أقتات بها طوال النهار أنا ووالدتي؛ إذ كان أبي كان غادر درعا إلى مخيم حماة، حيث عين ضابطاً للمخيم هناك، وتزوج فيه امرأة ثانية.

أكملت دراستي وحصلت على الشهادة الثانوية، وكنت من العشرة الأوائل على المحافظة في دولة الوحدة عام 1959.  وللمفارقة؛ إن ستةً من بين العشرة الأوائل آنذاك كانوا من اللاجئين الفلسطينيين. 
بعد ذلك انتقلت إلى دراسة "الهندسة" في جامعة حلب، وحصلت على منحة دراسية مقدارها 75 ل.س. من الحكومة السورية، كنت أرسل إلى أمي منها 30 ل.س.، وأعيش  بالباقي. تخرجت عام 1965، وانتقلت إلى دمشق لأنخرط في حياتي العملية موظفاً أتدرج من خلال ذلك أعلى المناصب الإدارية والنقابية حتى يومنا هذا.

للشاهد الأستاذ كمال حصان مسيرة نضالية زاخرة بالعطاء، بدأت بالمشاركة في المسيرات والتظاهرات؛ ولم تنته برئيس الدائرة التنظيمية لمنظمة الصاعقة، ولا بمواكبة حركة العودة في الشتات (وهو أحد مؤسسيها)؛ لأن هذه المسيرة من العطاء ما زالت مستمرة ومعطاءة وتقدم الجديد في المواقف، والكثير من الخبرات، وستكون لنا أحاديث طويلة عن تلك المسيرة لاحقاً.

لكن، بكل اختصار؛ يلخص الشاهد (الأستاذ كمال حصان) رؤيته لحق العودة فيقول: إن هذا الحق واجب مقدس، وهو لب القضية الفلسطينية، وإن  العودة إلى الفالوجة وفلسطين كاملة، لا يمكن أن تتحقق إلا بالمقاومة؛ وبالمقاومة وحدها.

المصدر: مجلة العودة    ــ العدد /56/ شهر أيار/ 2012

اعداد:أحمد الباش - دمشق:

 

لا تتوفر نتائج حالياً